يتغير الواقع الاجتماعي لبلادنا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام .. ويظهر هذا التغير جلياً إذا حسبناه بعقد من الزمان أو عقدين .. فما بالنا إذا حسبناه بجيل من الأجيال .. لكن هل أثر هذا التغير في الواقع الاجتماعي على ثوابت دينية لا تحتمل التغيير والتبديل مثل صلة الأرحام؟ .. وما هي المتغيرات التي ساعدت على هذا التغيير .. وكيف نطوع هذه المتغيرات لتكون محكومة بالإسلام وليست حاكمة عليه .. وهل يمكن أن تساهم صلة الأرحام في تخفيف الواقع المؤلم والصعب الذي تعيشه كثير من الأسر؟.
تعالوا نطرح هذه الأسئلة على الواقع .. وعلى الخبراء وعلماء الإسلام لنرى ماذا سيقولون؟.
تقول فاطمة رزق [معلمة رياض أطفال] إن إحدى الأمهات جلست معها تناقشها في كيفية تحبيب ابنها الصغير في الكتابة فروت الأم للمعلمة أنها جلست ذات مساء تساعد أبناءها في مراجعة دروسهم، وأعطت طفلها الصغير البالغ الرابعة من عمره كراسة للرسم حتى لا يشغلها عن ما تقوم مع إخوته الكبار.
وتذكرت الأم فجأة أنها لم تعد طعام العشاء لوالد زوجها الشيخ المسّن الذي يعيش معهم في حجرة خارج المبني في فناء البيت، فأسرعت بالطعام إليه، وسألته إن كان بحاجة لأي مساعدة أخرى ثم انصرفت عنه.
وعندما عادت إلى ما كانت عليه مع أبنائها لاحظت أن الطفل الصغير يقوم برسم دوائر ومربعات ويضع فيها رموز، فسألته عما يرسم، فأجابها بأنه يرسم بيته الذي سيعيش فيه عندما يكبر ويتزوج.
فقالت له وأين ستنام ؟ فأخذ الطفل يريها كل مربع ويقول هذه غرفة النوم، وهذا المطبخ، وهذه غرفة لاستقبال الضيوف، وأخذ يعدد كل ما يعرفه من غرف البيت وترك مربعاً منعزلاً خارج الإطار الذي رسمه، فعجبت الأم وقالت له: ولماذا هذه الغرفة خارج البيت منعزلة عن باقي الغرف؟ فأجابه: إنها لك ِسأضعك فيها تعيشين كما يعيش جدي الكبير، فصعقت الأم وبكت، ونقلت والد زوجها داخل المنزل.
يعز عليّ أن أراه عاقاً
يتحدث المهندس إبراهيم المحلاوي 62عاماً [على المعاش] فيقول: لقد رزقني الله بثلاثة من البنين وبنتاً، وقد أنفقت شبابي في تربيتهم على أحسن مستوى وكلهم تعلموا تعليماً عالياً، وحينما ذهب كبيرهم إلى بعثة دراسية إلى ألمانيا ليحصل على الدكتوراه كانت فرحتنا لا تصوف، فكتبت له الخطابات وننتظر اليوم الذي سيصلنا منه خطاب، ثم اخترنا له عروساً وسافرت إليه وبعد عودته استقل بنفسه وبأسرته وبدأ يبتعد عنا ويطلب منا ألا نزوره في بيته وينعزل بنفسه تماماً عنا. إننا لسنا في حاجة من أي شكل إليه، لكن يعز علينا أن نراه عاقاً لنا بعد كل ما فعلناه من أجله ويعز علينا أن يكون مصيره جهنم.
ويتحدث الحاج محمود عسل 65 عاماً، موظف سابق فيقول: توفيت زوجتي منذ سبع سنوات، بعد أن كافحت معي كفاح الأبطال لنربي أبناءنا، وبعد أن أنهوا تعليمهم وتسلموا وظائفهم لم نتركهم بل بعنا قطعة الأرض التي ورثناها لنزوجهم بها، ثم توفيت أمهم، واستقل الأبناء بمعيشتهم وسافروا ولا يسألون فيّ، وحينما فكرت أن أتزوج إنسانة ترعاني في شيخوختي حاصروني وهددوني بأنهم سيمنعوني بالقوة، وفي نفس الوقت لا يسألون عني ويتطلعون لما في يدي ويريدون أن أموت ليرثوني، إنني كرهت اليوم الذي أنجبتهم فيه.
أما الحاجة أنيسة مرسي من قرية العياط محافظة الجيزة فقد جاءت تطرق بابي وباب جيراني تطلب عملاً في تنظيف البيوت، ذلك العمل الشاق الذي لم تعد تقوى عليه لكبر سنها، وبدأت تبوح بما في قلبها، بعد أن طردها ابنها الوحيد من بيتها بتحريض من زوجته، وبعد أن خدعها فكتبت له عقداً للبيت، واستضافها أقاربها لكنها رفضت إلا أن تعمل.
وبعد أن أخبرنا بعض أهل الخير بقصتها تكفل أحدهم بتوفير كل ما تحتاجه هذه السيدة كي تحيا حياة كريمة، بعد أن عانت من عقوق ابنها الذي لا يمكن وصفه.
التعليم العلماني هو السبب
يقول د. أنور ضرغام أستاذ التربية: إن ارتفاع نسبة التعليم في المجتمع وتعلم المرأة على وجه الخصوص، جعلها تشعر بذاتها وتفردها بعد أن كانت هذه الذات مندمجة في الذات الجماعية للأسرة، وأصبح للمرأة صوت ضاغط على زوجها. وللأسف الشديد فإن متغير التعليم هذا كان في معظمه تعليماً علمانياً يغرس بدوره الأنانية وحب الذات، وعدم الحض على التعاون مما جعل الزوجة تقتنع بما يقال لها عن المساواة وأنها لا تقل عن زوجها، فأصبحت تطالبه بأن يستقل عن أسرته وأن يصبح دخله كاملاً لأسرته الصغيرة التي هي الزوجة والأولاد فقط.
وقد ارتبط تعليم المرأة بعملها في نفس الوقت، واستخدمت هذا العامل في الضغط على زوجها بتقليل صلته برحمه وخاصة أبيه وأمه، ويزداد تعقد القضية حينما يحتاج الزوج لمرتب زوجته في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة.
ويضيف د. ضرغام أنه للأسف الشديد هناك كثير من الأمهات التي تحرض بناتها ضد حمواتهن وأهل أزواجهن، كما أنه يوجد في مجتمعاتنا أمهات يربين بناتهن على كره كل أقارب الزوج وقطع الروابط مع الأعمام والعمات ووصلها مع الأخوال والخالات وهذا أمر على جانب خطير من الأهمية جعل المشكلة تظهر بهذه الحدة.
وهناك عامل مهم وحاسم في هذا الموضوع وهو أن التعليم المدني لم يواكبه تعليم ديني يوصي الفتاة التي ستصبح زوجة بالبر بأم زوجها وأبيه وكل أهله واعتبار صلة الأرحام أمر شرعي هام لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم الجنة على قاطع الرحم، وبدلًا من أن نغرس هذه التربية الدينية في نفوس أبنائنا غرسنا فيهم أفكاراً علمانية ومصادمة تماماً للدين وملغية لدوره.
الزوجة هي المتهم الأول
أما د. علي عبد الوهاب أستاذ علم الاجتماع فيقول: إن الزوجة كان لها دور رئيسي في هذه القضية بالإلحاح المتواصل على زوجها بالبث في أذنه عن كل كلمة من شأنها أن تعكر الصفو بينه وبين أهله، وتكبير الأخطاء البسيطة، وتصيد الهفوات العادية غير المتعمدة، والكذب عليه أحياناً، كي تخطفه وتنأى به بعيداً عن أهله.
وللأسف أصبح المجتمع عن طريق وسائل الإعلام وتصوير العلاقة بين الزوجة وحماتها وبين أم الزوجة وأم الزوج على أنها حرب، يلعب دوراً خطيراًُ ولم يحاول أن يقوم بدور إيجابي تربوي لغرس مفاهيم دينية أصيلة من شأنها التخفيف من هذا الواقع وتوفير الوئام والائتلاف المفقود بين أسرنا من ناحية وبين الأسرة الواحدة من ناحية أخرى.
ويضيف د. علي عبد الوهاب أننا طبقنا تجربة المجتمعات الغربية التي لا تبالي بالعلاقات الاجتماعية والأسرية والتي فيها يطرد الأب ابنه من المنزل حين يبلغ السادسة عشر من عمره. لقد طبقنا التجربة الغربية في بيئة غير بيئتها بل في بيئة معادية تماماً لها فكان فشلنا ذريعاً. فمن ناحية ابتعد واقعنا عن الإسلام بمقادير مختلفة ومن ناحية أخرى لم نلحق بالركب الغربي لأن تكويننا وظروفنا مختلفة تماماً عن تجربة وظروف وثقافة ودين المجتمع الغربي، وكان حصاد التجربة مراً وتأثر واقعنا الاجتماعي الذي كان قوياً بحكم روابط الشريعة التي تحكمه ، تأثر بالتفكك الاجتماعي والأسري في الغرب وهو أسوأ ما في الحضارة الغربية على الإطلاق.
معايير مرفوضة
في رأى د. عبد المنعم زكي أستاذ علم النفس أن هناك أنماطاً من صلة الأرحام بدأت تنتشر استجابة للواقع، مثل استخدام جهاز التليفون بديلاً عن الزيارة وحرارة اللقاء. فالبعض يظل يستخدم التليفون ولا يزور قريبه سنوات طويلة، ورغم أن هذا أفضل من قطع الصلة تماماً، إلا أن اللقاء الشخصي له حرارة وود خاص، ويسمح بالتعرف على ظروف الآخر الحقيقية.
كما أن صلة الأرحام عندنا أصبحت نوعاً من رد الجميل .. من زارني أزوره وهذا خطأ .. فكما في الحديث [ليس الواصل بالمكافئ .. إنما الواصل هو من إذا قطعت رحمة وصلها].
وإذا استخدمنا صلة الرحم بهذا المفهوم العميق يمكن أن نخفف عن كثير من الأقارب المحتاجين، الذين هم في حاجة إلى مساعدة مادية أو مساعدة في فهم المشاكل واختيار الحل، وهناك أقارب لا يحتاجون إلا أن يروا لهم أقارب.
وأصبحنا نرى أيضاً أناساً لا يزورون إلا الأغنياء من أقاربهم الذين يقيمون معهم علاقات عمل، بينما ينسون أو يتناسون الفقراء الذين هم في أشد الحاجة إلى المساعدة، بينما الغني ليس في حاجة إلى هذه الزيارة. وبالتالي امتلأ مجتمعنا بأنماط من النفاق الاجتماعي وبالمجاملات الشكلية القائمة على المصالح، بينما خلا من العلاقات الصادقة المخلصة لوجه الله والتي تستبعد من حسبانها المصالح المادية، وكل ذلك أفرغ فضيلة صلة الرحم من محتواها وجعلها غائبة لا تفعل مفعولها، وبالتالي لا تؤتي ثمارها في مجتمع هو أحوج ما يكون إليها.
شاب لا يعرف عمته!!
سألت أحمد محرم وهو شاب يعمل موظفاً: هل تعرف كل أقاربك وتزورهم؟ قال : أحاول قدر الإمكان أن أزورهم، القريبون مني أمرهم سهل، والبعيدون نسبياً أزورهم على فترات متباعدة أو يأتون لزيارتنا، أما البعيدون جداً فزيارتهم صعبة .. ويضيف أنه له عمة لم يرها منذ عشر سنوات، ويعلل ذلك بانهماك الكل في عمله وأسلوب الحياة السريع الذي جعل كل إنسان مشغولاً بنفسه وبأموره الخاصة.
يعلق د. حسن عبد ربه إمام الأستاذ بجامعة الأزهر على ذلك فيقول: إن الواقع الاجتماعي مليء بمشكلات قطع الأرحام، وأنا شخصياً أعرف أخوة قاطع بعضهم بعضاً منذ خمسة عشر عاماً بسبب الميراث، حيث يعتبر الميراث في كثير من الحالات عاملاً لإثارة المشاكل بين الأخوة، خاصة إذا وجد بينهم من يريد الاستحواذ على كل الميراث أو جزء منه لنفسه دون الآخرين، ويقع الآباء في مشكلة كتابة الميراث لطرف دون آخر وحرمان بعض الأبناء منه وعند موت الأب يكون قد زرع البغضاء بنفسه بين أبنائه بظلمه وعدم عدله.
ونحن نخسر كثيراً من هذا التقاطع والتدابر، فذو الرحم له حق مقدس ويجب السؤال عنه ومد يد العون له وإغاثته وعدم التخلي عنه.
فقد يحدث أن يموت زوج الأخت ويترك الأخت وأبناءها فهل يعقل أن يظل أخوتها يتفرجون عليها وهي تواجه ظروف الحياة بلا عائل بمفردها؟، للأسف هذا يحدث في بعض الأحيان.
لكن الواقع ليس كله بهذا السوء فمازال الخير موجوداً ومازال الأمر القرآني وتوجيهات السنة النبوية الشريفة تجد صداها في كثير من القلوب المؤمنة التي تغفر خطأ ذي الرحم وتسامحه وتصله في الله ،وهذا هو الأمل الباقي لنا.
الغرب قدوة سيئة
يتحدث د. محمد حامد ناصر عن الآباء والمسنون في حضارة الغرب المادية فيقول: إن الحيوانات أصبحت في تلك الحضارة تتفوق أحياناً على رعاية المسنين، ولاسيما المرضى والعجزة، فقد انتهت صلاحياتهم، ولم يعدلهم ما يقدمونه لبلادهم، ولذلك أهملوا ورمي بهم في زوايا قديمة بانتظار أن يأخذهم الموت.
وهذا ما جعل النائب الديمقراطي الأمريكي 'كلودبير' يقول: 'إن وضع المسنين في أمريكا عارٌ وطني مرعب'. جاء ذلك في معرض تعليقه على تقرير أعدته لجنة في مجلس النواب الأمريكي، بعد دراسة استمرت ست سنوات جاء فيها: 'إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم [65عاماً] يتعرضون لإساءات خطيرة، فيضربون ويعذبون عذاباً جسدياً ونفسياً، وتسرق أموالهم من قبل ذويهم.
كما أن هذه الإساءات، ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة، بل إنها تحدث في كل طبقات المجتمع على حد سواء، في المدن والقرى والأرياف.
ومن أبشع ما ورد في هذا التقرير: أن امرأة قامت بتقييد أبيها البالغ من العمر[81عاماً] بسلسلة وربطته أمام الحمام، وأخذت تعذبه لعدة أيام!!
وقد أكد التقرير أن الإساءة للمسنين، تأخذ عدة أشكال، منها الضرب والإهمال والحرمان من الطعام والشراب وقد يصل الأمر إلى القتل أحياناً.
ويعلق النائب 'كلودبير' قائلاً: 'لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة، لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءً ثابتاً من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية'.
إن الوالدين في بلاد الغرب يعيشان في حالة بائسة، فلا يسأل الولد عن أمه ولا أبيه، ولا ينفق عليهما، ولو كانت حاجتهما شديدة، زكم من رجل مسن وامرأة مسنة يموتان في أوربا وأمريكا في كل عام من البرد والجوع، وقد تبقى الجثة في الشقة أياماً دون أن يحس بها أحد، إذ يعيش معظم هؤلاء الشيوخ بمفردهم، فلا يزورهم أحد إلا نادراً، وقد لا يرون إلا مندوب الضمان الاجتماعي في كل شهر مرة.
إن أخاً لنا كان يدرس الطب في بريطانيا روى لنا أن صديقاً له، كان يعمل مناوباً في أحد المستشفيات هنالك، وكان قد توفي رجل مسن في تلك الليلة عنده، فأحب أن يعزي أسرة المتوفى، واتصل بولده في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وعزاه بوفاة والده على وجل، فما كان من الابن العاق إلا أن امتعض من هذا الاتصال وقال: أتتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتخبرني بوفاة والدي؟! وماذا تنتظر مني أن أفعل؟! أنا مسافر صباحاً لمدة ثلاثة أيام، ضعوه في الثلاجة، وسأراجعكم حين عودتي، من أجل استلام الجثة.
إن ظاهرة العقوق ظاهرة عامة في المجتمعات الغربية، حيث تجمدت العواطف، ونضبت معاني الإنسانية، وفسدت الفطرة لديهم.
وأخيرا نسأل الله العلي القدير بأن يصلح أبنائنا وابناء المسلمين لما فيه خير لهذه الامه انه سميع مجيب.
تعالوا نطرح هذه الأسئلة على الواقع .. وعلى الخبراء وعلماء الإسلام لنرى ماذا سيقولون؟.
تقول فاطمة رزق [معلمة رياض أطفال] إن إحدى الأمهات جلست معها تناقشها في كيفية تحبيب ابنها الصغير في الكتابة فروت الأم للمعلمة أنها جلست ذات مساء تساعد أبناءها في مراجعة دروسهم، وأعطت طفلها الصغير البالغ الرابعة من عمره كراسة للرسم حتى لا يشغلها عن ما تقوم مع إخوته الكبار.
وتذكرت الأم فجأة أنها لم تعد طعام العشاء لوالد زوجها الشيخ المسّن الذي يعيش معهم في حجرة خارج المبني في فناء البيت، فأسرعت بالطعام إليه، وسألته إن كان بحاجة لأي مساعدة أخرى ثم انصرفت عنه.
وعندما عادت إلى ما كانت عليه مع أبنائها لاحظت أن الطفل الصغير يقوم برسم دوائر ومربعات ويضع فيها رموز، فسألته عما يرسم، فأجابها بأنه يرسم بيته الذي سيعيش فيه عندما يكبر ويتزوج.
فقالت له وأين ستنام ؟ فأخذ الطفل يريها كل مربع ويقول هذه غرفة النوم، وهذا المطبخ، وهذه غرفة لاستقبال الضيوف، وأخذ يعدد كل ما يعرفه من غرف البيت وترك مربعاً منعزلاً خارج الإطار الذي رسمه، فعجبت الأم وقالت له: ولماذا هذه الغرفة خارج البيت منعزلة عن باقي الغرف؟ فأجابه: إنها لك ِسأضعك فيها تعيشين كما يعيش جدي الكبير، فصعقت الأم وبكت، ونقلت والد زوجها داخل المنزل.
يعز عليّ أن أراه عاقاً
يتحدث المهندس إبراهيم المحلاوي 62عاماً [على المعاش] فيقول: لقد رزقني الله بثلاثة من البنين وبنتاً، وقد أنفقت شبابي في تربيتهم على أحسن مستوى وكلهم تعلموا تعليماً عالياً، وحينما ذهب كبيرهم إلى بعثة دراسية إلى ألمانيا ليحصل على الدكتوراه كانت فرحتنا لا تصوف، فكتبت له الخطابات وننتظر اليوم الذي سيصلنا منه خطاب، ثم اخترنا له عروساً وسافرت إليه وبعد عودته استقل بنفسه وبأسرته وبدأ يبتعد عنا ويطلب منا ألا نزوره في بيته وينعزل بنفسه تماماً عنا. إننا لسنا في حاجة من أي شكل إليه، لكن يعز علينا أن نراه عاقاً لنا بعد كل ما فعلناه من أجله ويعز علينا أن يكون مصيره جهنم.
ويتحدث الحاج محمود عسل 65 عاماً، موظف سابق فيقول: توفيت زوجتي منذ سبع سنوات، بعد أن كافحت معي كفاح الأبطال لنربي أبناءنا، وبعد أن أنهوا تعليمهم وتسلموا وظائفهم لم نتركهم بل بعنا قطعة الأرض التي ورثناها لنزوجهم بها، ثم توفيت أمهم، واستقل الأبناء بمعيشتهم وسافروا ولا يسألون فيّ، وحينما فكرت أن أتزوج إنسانة ترعاني في شيخوختي حاصروني وهددوني بأنهم سيمنعوني بالقوة، وفي نفس الوقت لا يسألون عني ويتطلعون لما في يدي ويريدون أن أموت ليرثوني، إنني كرهت اليوم الذي أنجبتهم فيه.
أما الحاجة أنيسة مرسي من قرية العياط محافظة الجيزة فقد جاءت تطرق بابي وباب جيراني تطلب عملاً في تنظيف البيوت، ذلك العمل الشاق الذي لم تعد تقوى عليه لكبر سنها، وبدأت تبوح بما في قلبها، بعد أن طردها ابنها الوحيد من بيتها بتحريض من زوجته، وبعد أن خدعها فكتبت له عقداً للبيت، واستضافها أقاربها لكنها رفضت إلا أن تعمل.
وبعد أن أخبرنا بعض أهل الخير بقصتها تكفل أحدهم بتوفير كل ما تحتاجه هذه السيدة كي تحيا حياة كريمة، بعد أن عانت من عقوق ابنها الذي لا يمكن وصفه.
التعليم العلماني هو السبب
يقول د. أنور ضرغام أستاذ التربية: إن ارتفاع نسبة التعليم في المجتمع وتعلم المرأة على وجه الخصوص، جعلها تشعر بذاتها وتفردها بعد أن كانت هذه الذات مندمجة في الذات الجماعية للأسرة، وأصبح للمرأة صوت ضاغط على زوجها. وللأسف الشديد فإن متغير التعليم هذا كان في معظمه تعليماً علمانياً يغرس بدوره الأنانية وحب الذات، وعدم الحض على التعاون مما جعل الزوجة تقتنع بما يقال لها عن المساواة وأنها لا تقل عن زوجها، فأصبحت تطالبه بأن يستقل عن أسرته وأن يصبح دخله كاملاً لأسرته الصغيرة التي هي الزوجة والأولاد فقط.
وقد ارتبط تعليم المرأة بعملها في نفس الوقت، واستخدمت هذا العامل في الضغط على زوجها بتقليل صلته برحمه وخاصة أبيه وأمه، ويزداد تعقد القضية حينما يحتاج الزوج لمرتب زوجته في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة.
ويضيف د. ضرغام أنه للأسف الشديد هناك كثير من الأمهات التي تحرض بناتها ضد حمواتهن وأهل أزواجهن، كما أنه يوجد في مجتمعاتنا أمهات يربين بناتهن على كره كل أقارب الزوج وقطع الروابط مع الأعمام والعمات ووصلها مع الأخوال والخالات وهذا أمر على جانب خطير من الأهمية جعل المشكلة تظهر بهذه الحدة.
وهناك عامل مهم وحاسم في هذا الموضوع وهو أن التعليم المدني لم يواكبه تعليم ديني يوصي الفتاة التي ستصبح زوجة بالبر بأم زوجها وأبيه وكل أهله واعتبار صلة الأرحام أمر شرعي هام لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم الجنة على قاطع الرحم، وبدلًا من أن نغرس هذه التربية الدينية في نفوس أبنائنا غرسنا فيهم أفكاراً علمانية ومصادمة تماماً للدين وملغية لدوره.
الزوجة هي المتهم الأول
أما د. علي عبد الوهاب أستاذ علم الاجتماع فيقول: إن الزوجة كان لها دور رئيسي في هذه القضية بالإلحاح المتواصل على زوجها بالبث في أذنه عن كل كلمة من شأنها أن تعكر الصفو بينه وبين أهله، وتكبير الأخطاء البسيطة، وتصيد الهفوات العادية غير المتعمدة، والكذب عليه أحياناً، كي تخطفه وتنأى به بعيداً عن أهله.
وللأسف أصبح المجتمع عن طريق وسائل الإعلام وتصوير العلاقة بين الزوجة وحماتها وبين أم الزوجة وأم الزوج على أنها حرب، يلعب دوراً خطيراًُ ولم يحاول أن يقوم بدور إيجابي تربوي لغرس مفاهيم دينية أصيلة من شأنها التخفيف من هذا الواقع وتوفير الوئام والائتلاف المفقود بين أسرنا من ناحية وبين الأسرة الواحدة من ناحية أخرى.
ويضيف د. علي عبد الوهاب أننا طبقنا تجربة المجتمعات الغربية التي لا تبالي بالعلاقات الاجتماعية والأسرية والتي فيها يطرد الأب ابنه من المنزل حين يبلغ السادسة عشر من عمره. لقد طبقنا التجربة الغربية في بيئة غير بيئتها بل في بيئة معادية تماماً لها فكان فشلنا ذريعاً. فمن ناحية ابتعد واقعنا عن الإسلام بمقادير مختلفة ومن ناحية أخرى لم نلحق بالركب الغربي لأن تكويننا وظروفنا مختلفة تماماً عن تجربة وظروف وثقافة ودين المجتمع الغربي، وكان حصاد التجربة مراً وتأثر واقعنا الاجتماعي الذي كان قوياً بحكم روابط الشريعة التي تحكمه ، تأثر بالتفكك الاجتماعي والأسري في الغرب وهو أسوأ ما في الحضارة الغربية على الإطلاق.
معايير مرفوضة
في رأى د. عبد المنعم زكي أستاذ علم النفس أن هناك أنماطاً من صلة الأرحام بدأت تنتشر استجابة للواقع، مثل استخدام جهاز التليفون بديلاً عن الزيارة وحرارة اللقاء. فالبعض يظل يستخدم التليفون ولا يزور قريبه سنوات طويلة، ورغم أن هذا أفضل من قطع الصلة تماماً، إلا أن اللقاء الشخصي له حرارة وود خاص، ويسمح بالتعرف على ظروف الآخر الحقيقية.
كما أن صلة الأرحام عندنا أصبحت نوعاً من رد الجميل .. من زارني أزوره وهذا خطأ .. فكما في الحديث [ليس الواصل بالمكافئ .. إنما الواصل هو من إذا قطعت رحمة وصلها].
وإذا استخدمنا صلة الرحم بهذا المفهوم العميق يمكن أن نخفف عن كثير من الأقارب المحتاجين، الذين هم في حاجة إلى مساعدة مادية أو مساعدة في فهم المشاكل واختيار الحل، وهناك أقارب لا يحتاجون إلا أن يروا لهم أقارب.
وأصبحنا نرى أيضاً أناساً لا يزورون إلا الأغنياء من أقاربهم الذين يقيمون معهم علاقات عمل، بينما ينسون أو يتناسون الفقراء الذين هم في أشد الحاجة إلى المساعدة، بينما الغني ليس في حاجة إلى هذه الزيارة. وبالتالي امتلأ مجتمعنا بأنماط من النفاق الاجتماعي وبالمجاملات الشكلية القائمة على المصالح، بينما خلا من العلاقات الصادقة المخلصة لوجه الله والتي تستبعد من حسبانها المصالح المادية، وكل ذلك أفرغ فضيلة صلة الرحم من محتواها وجعلها غائبة لا تفعل مفعولها، وبالتالي لا تؤتي ثمارها في مجتمع هو أحوج ما يكون إليها.
شاب لا يعرف عمته!!
سألت أحمد محرم وهو شاب يعمل موظفاً: هل تعرف كل أقاربك وتزورهم؟ قال : أحاول قدر الإمكان أن أزورهم، القريبون مني أمرهم سهل، والبعيدون نسبياً أزورهم على فترات متباعدة أو يأتون لزيارتنا، أما البعيدون جداً فزيارتهم صعبة .. ويضيف أنه له عمة لم يرها منذ عشر سنوات، ويعلل ذلك بانهماك الكل في عمله وأسلوب الحياة السريع الذي جعل كل إنسان مشغولاً بنفسه وبأموره الخاصة.
يعلق د. حسن عبد ربه إمام الأستاذ بجامعة الأزهر على ذلك فيقول: إن الواقع الاجتماعي مليء بمشكلات قطع الأرحام، وأنا شخصياً أعرف أخوة قاطع بعضهم بعضاً منذ خمسة عشر عاماً بسبب الميراث، حيث يعتبر الميراث في كثير من الحالات عاملاً لإثارة المشاكل بين الأخوة، خاصة إذا وجد بينهم من يريد الاستحواذ على كل الميراث أو جزء منه لنفسه دون الآخرين، ويقع الآباء في مشكلة كتابة الميراث لطرف دون آخر وحرمان بعض الأبناء منه وعند موت الأب يكون قد زرع البغضاء بنفسه بين أبنائه بظلمه وعدم عدله.
ونحن نخسر كثيراً من هذا التقاطع والتدابر، فذو الرحم له حق مقدس ويجب السؤال عنه ومد يد العون له وإغاثته وعدم التخلي عنه.
فقد يحدث أن يموت زوج الأخت ويترك الأخت وأبناءها فهل يعقل أن يظل أخوتها يتفرجون عليها وهي تواجه ظروف الحياة بلا عائل بمفردها؟، للأسف هذا يحدث في بعض الأحيان.
لكن الواقع ليس كله بهذا السوء فمازال الخير موجوداً ومازال الأمر القرآني وتوجيهات السنة النبوية الشريفة تجد صداها في كثير من القلوب المؤمنة التي تغفر خطأ ذي الرحم وتسامحه وتصله في الله ،وهذا هو الأمل الباقي لنا.
الغرب قدوة سيئة
يتحدث د. محمد حامد ناصر عن الآباء والمسنون في حضارة الغرب المادية فيقول: إن الحيوانات أصبحت في تلك الحضارة تتفوق أحياناً على رعاية المسنين، ولاسيما المرضى والعجزة، فقد انتهت صلاحياتهم، ولم يعدلهم ما يقدمونه لبلادهم، ولذلك أهملوا ورمي بهم في زوايا قديمة بانتظار أن يأخذهم الموت.
وهذا ما جعل النائب الديمقراطي الأمريكي 'كلودبير' يقول: 'إن وضع المسنين في أمريكا عارٌ وطني مرعب'. جاء ذلك في معرض تعليقه على تقرير أعدته لجنة في مجلس النواب الأمريكي، بعد دراسة استمرت ست سنوات جاء فيها: 'إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم [65عاماً] يتعرضون لإساءات خطيرة، فيضربون ويعذبون عذاباً جسدياً ونفسياً، وتسرق أموالهم من قبل ذويهم.
كما أن هذه الإساءات، ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة، بل إنها تحدث في كل طبقات المجتمع على حد سواء، في المدن والقرى والأرياف.
ومن أبشع ما ورد في هذا التقرير: أن امرأة قامت بتقييد أبيها البالغ من العمر[81عاماً] بسلسلة وربطته أمام الحمام، وأخذت تعذبه لعدة أيام!!
وقد أكد التقرير أن الإساءة للمسنين، تأخذ عدة أشكال، منها الضرب والإهمال والحرمان من الطعام والشراب وقد يصل الأمر إلى القتل أحياناً.
ويعلق النائب 'كلودبير' قائلاً: 'لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة، لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءً ثابتاً من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية'.
إن الوالدين في بلاد الغرب يعيشان في حالة بائسة، فلا يسأل الولد عن أمه ولا أبيه، ولا ينفق عليهما، ولو كانت حاجتهما شديدة، زكم من رجل مسن وامرأة مسنة يموتان في أوربا وأمريكا في كل عام من البرد والجوع، وقد تبقى الجثة في الشقة أياماً دون أن يحس بها أحد، إذ يعيش معظم هؤلاء الشيوخ بمفردهم، فلا يزورهم أحد إلا نادراً، وقد لا يرون إلا مندوب الضمان الاجتماعي في كل شهر مرة.
إن أخاً لنا كان يدرس الطب في بريطانيا روى لنا أن صديقاً له، كان يعمل مناوباً في أحد المستشفيات هنالك، وكان قد توفي رجل مسن في تلك الليلة عنده، فأحب أن يعزي أسرة المتوفى، واتصل بولده في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وعزاه بوفاة والده على وجل، فما كان من الابن العاق إلا أن امتعض من هذا الاتصال وقال: أتتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتخبرني بوفاة والدي؟! وماذا تنتظر مني أن أفعل؟! أنا مسافر صباحاً لمدة ثلاثة أيام، ضعوه في الثلاجة، وسأراجعكم حين عودتي، من أجل استلام الجثة.
إن ظاهرة العقوق ظاهرة عامة في المجتمعات الغربية، حيث تجمدت العواطف، ونضبت معاني الإنسانية، وفسدت الفطرة لديهم.
وأخيرا نسأل الله العلي القدير بأن يصلح أبنائنا وابناء المسلمين لما فيه خير لهذه الامه انه سميع مجيب.